هل العلوم المفتوحة (الحرة) الوجه المضاد للملكية الفكرية؟
مع تطور العلوم ودخول الثورة الصناعية الأولى خلال القرن الثامن عشر وتوهج ثورتها خلال القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية، ومحاولة الدول للحفاظ على سرية ما توصلت إليه من أبحاث في كافة فروع العلم وما نتج عنها من اختراعات واكتشافات غيرت شكل العالم، وكان لها الأثر البالغ على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سواء في أوروبا أو خارجها.
هذا الأمر أدى بلا شك لمحاولة هذه الدول الحفاظ على ما تمتلكه من علوم كملكية فكرية لها دون غيرها، تمكنها من ازدياد هيمنتها وتوسيع نفوذها، وأيضًا زيادة الفجوة بينها وبين دول العالم الأخرى، والتي ستبقى أسواقًا مستدامة لمنتجات هذه الثورة ، إلا إن الحروب والتوسعات الاستعمارية لهذه الدول الأوروبية أدت إلى خوفها من بعض، وتفوق بعضها على الآخر، خاصة في تلك الفترة الملتهبة من التاريخ بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فبمراجعتي لتاريخ المنظمة العالمية للملكية الفكريةWIPO وجدت إن نشأتها كانت في عام 1883 من خلال معاهدة باريس، ثم تطورت ثم معاهدة بيرن سنة 1886 بقيادة فيكتور هوجو لحماية الأدب، إلى أن أصبحت بشكلها الجديد في جنيف سنة 1976. فكانت هذه الدول حريصة كل الحرص على أن تحمي رأس مالها الفكري، الذي ُيشكل المصدر الرئيس للاقتصاد المعتمد على الصناعة والتصدير، إلا إن كل تلك المحاولات البينية اصطدمت بأسواق أخرى، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، بظهور أسواق أخرى تمكنت من البناء على ما احتفظت به تلك الدول، مثل كوريا والصين وماليزيا وغيرها، بل واستطاعت هذه الدول تطوير أسلوبها الذي فاق في أحيان كثيرة الفكر الأوروبي. فزادت حدة الحرب على حفظ حقوق الملكية الفكرية.
الصين حالة خاصة
الصين دوما متهمة من العالم الرأسمالي بالقرصنة وعدم الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية، فعلى سبيل المثال في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، خسرت الولايات المتحدة حوالي ملياري دولار من الإيرادات سنوًيا بسبب القرصنة المتفشية في الصين. مما دفعها لفرض قيود وعقوبات كبيرة على الصين، الأمر الذي أدى إلى اهتمام الحكومة الصينية بحفظ حقوق الملكية الفكرية، بل وانتشرت ثقافة الملكية الفكرية.
هنا لابد أن يكون لنا وقفة سريعة، هل سياسات الملكية الفكرية أفادت العالم أم أضرته ( هذا من منظور أن الصين تمارس القرصنة ولا تراعي حقُوق الملكية الفكرية)، دعنا نبدأ بمجال واضح وجلي في يدي كل البشر، ألا وهي الهواتف الذكية،استطاعت الصين أن تنتج ماركات صينية مثل هواوي أحدثت طفرة عالمية في هذا المجال، وعلى مستويات أخرى، لو تركت الصين السوق العالمي للدول الرأسمالية لازدادت الدول الفقيرة فقرا لارتفاع تكلفة منتجاتها، فلا تستطيع دولة واحدة في العالم الاستغناء عن الصين في كافة المجالات وكافة مراحل سلسلة القيمة لأي منتج، وعلى مستوى السيارات باتت الآن منافسة من حيث الجودة والسعر مقارنة بالماركات الأخرى، كل هذا كان باستفادتها من حقوق الآخرين، بل واستطاعت تطويره وتقديم نماذج أكثر ابتكارية وذكاء. هنا أعود إلى السؤال المزدوج هل استطاع السوق الرأسمالي إيقاف الصين؟ بل والأكثر إثارة هل استطاع السوق الرأسمالي نفسه الاستغناء عن الصين؟ الأمر إذن يتطلب نظرة أخرى في إتاحية المعرفة، لا أقصد فقط البحوث، وإنما ملكية التصاميم والصناعات.
العالم أصبح مثالًيا ومنفتحا بعدا نتشار فيروس كورونا
الحقيقة استوقفتني الفكرة بعد انتشار فيروس كورونا، ولاحظت كم كان العالم مثال ًيا ومتعاوًنا (أنان ًيا أقصد) في السماح باستخدام كافة الموارد المنشورة دون حقوق ملكية فكرية، وسمحوا بتبادلها ونشرها. فعندما خرج الأمر من يد رعاة الملكية الفكرية وبات مستعصيا الوصول لحلول سريعة، ُفتح الباب على مصراعيه للعلوم المفتوحة، فعلى سبيل المثال سارعت المفوضية الأوروبية عام 2020 بالتعاطي مع الاتجاه العالمي "الحق في (فتح) العلم" على مستوى السياسة ومستوى البنية التحتية. أطلقت البيان الخاص "تعظيم إمكانية الوصول إلى نتائج الأبحاث في مكافحة كوفيد 19 Maximising the ’19-accessibility of research results in the fight against COVID"، والذي نتج عنه ثلاثة مبادئ تضمنت: (1) للإعلان عن جميع حالاتCOVID وإتاحتها للجميع -19 (2) إتاحة جميع الأوراق وبيانات البحث على الفور بشكل مفتوح ، و (3) منح تراخيص غير حصرية خالية من حقوق الملكية على الملكية الفكرية الناتجة عن المشاريع الممولة من الاتحاد الأوروبي.
وصلنا الآن لماهية الملكية الفكرية
ببساطة الملكية الفكرية هي الحق القانوني للمالك (والذي تم إثباته في أي وسيط) في الاحتفاظ بما توصل إليه سواء كانت اكتشافات أو معارف أو معلومات أو حتى نواحي أدبية أو غيرها، بل ومطالبة الآخرين بالتوقف عن أي استخدامها والحصول على تعويض في حالة الاستخدام غير القانوني. والمتعارف عليه في هذا المجال أن المصطلح ُيشير إلى أربع مجالات رئيسة: حق المؤلف copyright، وبراءات الاختراع patents، والعلامات التجارية trademarks، والأسرار التجارية،trade secret انطلا ًقا من هذا ومع إيماني الشديد بأهمية الملكية الفكرية في الحفاظ على الحقوق، إلا إن ذلك الإيمان يصطدم بالمنفعةالعامة، فعلى سبيل المثال لدينا شاب فقير يود ارتداء قميص جميل، وعلى جانب آخر هناك رائد أعمال صغير في حارة فقيرة لديه مصنع صغير لصناعة الملابس، هذا يعرف دخل ذاك، وذاك يفهم جودة هذا، فيصمم هذا قميصا بتصميم عالمي، ويلبسه هذا ويفرح به، فلو منعنا هذا من انتاج ذلك القميص، ما كان ليكون رائد أعمال، وما كان ذاك ليلبس ما يحب. لابد لهذا العالم أن ُيراعي احتياجات الفقراء. هذا المثال بالضبط هو المُتبع بيه الدول.
كيف للعلم المفتوح أن يساهم في تطويرالعالم
بداية من حيث مفهوم العلم المفتوح، فلو بحثت في أي مكان أو حتى ويكيبيديا، ستجد المفاهيم الكثيرة، هنا أبسط لك الأمر، من وجهة نظري العلم المفتوح بدرجة كبيرة أو صغيرة يأخذ بعض التناقض مع الملكية الفكرية، وذلك فقط على المستويات السياسية الكبرى، فالعلم المفتوح هو ذلك العلم الذي يتيح لكل البشر حق المعرفة بأي مجال، فيتضمن البيانات المفتوحة والمعلومات المفتوحة والعمليات والإجراءات المفتوحة وآخر ما توصل إليه الفكر البشري، فهو حق من حقوق البشر، وسينفع كل البشر، ويزداد معه الابداع والابتكار، وهنا استشهد بما ذكرته إيرين ماكيرنان (2014) في منشور لها في صحيفة الغارديان إلى أن "الوصول إلى المعلومات هو حق من حقوق الإنسان ، ولكن غالبًا ما يتم التعامل معه على أنه امتياز.
العلوم المُقيدة تحرم الكثير من المُبدعين والمُبتكرين والباحثين من دول العالم الثالث من الخروج بمبتكراتهم للنور، على العالم أن يُغير طريقة تفكيره، فالملكية الفكرية باتت سهل اختراقها مع تطور العلوم، وانفجار الثورة. مع هذه الثورة وما تضمنه من ذكاء اصطناعي، باتت الملكية الفكرية في مهب الريح. هنا أتذكر مصطلح الصومعة التنظيمية وأربطه بالملكية الفكرية، وفكرة الصومعة أن المنظمات أو الدول تنكفئ على نفسها ولا ترغب في المشاركة مع الآخرين، وكانت السبب الرئيس في انهيار شركة نوكيا، هذا المثال ينطبق على العلم المفتوح في ظل الثورة الصناعية الرابعة، لابد للدول أن تُشجع الفكر الإبداعي والابتكاري في كل بقعة من بقاع الأرض، وفتح كل أبواب المعرفة المجانية أمامه؛ لإن ذلك ببساطة سينعكس على كل أفراد العالم بما فيهم أفراد المجتمعات المتحفظة على العلم المفتوح.
يأتي أحدهم ليقول وكيف ستكون التنافسية العالمية في ظل الإتاحية العلمية؟، هنا تبادر لذهني مباشرة "مثال قد يكون بعيدًا عن الموضوع، إنما يلمسه، وهو كيف لشركات الاستشارات العالمية من القطاع الخاص تنشر كيفية عمل استراتيجية مؤسسية أو قطاعية ما، وبالتفصيل، ومع ذلك لا تستطيع الشركات الأخرى إخراجها من السوق، أو إن طباخ شهير ينشر كل وصفاته على يوتيوب، وتجد مطعمه هو الأشهر" فقط، وأدعو القارئ للتفكر في ذلك.
بواسطة د. محمود ابو سيف
خبير البحوث والدراسات
النشرة البريدية
اشترك في النشرة البريدية ليصلك كل جديد